تاريخ النشر: الجمعة 19 نوفمبر 2024
وافق يوم الثلاثاء الماضي اليوم الدولي للتسامح، والذي يأتي في السادس عشر من شهر نوفمبر في كل عام، ونحن في هذه المناسبة نبين وجهة نظر الإسلام كي يكون المسلم على بينة من أمور دينه.
لقد أنعم الله سبحانه وتعالى على البشرية جمعاء برسالة سيدنا محمد –صلى الله عليه وسلم- هذه الرسالة التي ختم الله بها الرسالات، وجاءت كاملة شاملة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) (سورة المائدة الآية 3).
هذه الرسالة السماوية نزلت على سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- في بطحاء مكة وفي خلال فترة وجيزة وبفضل الله وعونه، وإذ بهذه الرسالة تنتشر انتشاراً سريعاً في أرجاء المعمورة، ومع ذلك فإننا نجد أن هناك من يقول: إن الإسلام انتشر بالسيف، وهذا قول خطأ، فالإسلام لم ينتشر بالسيف، ولا بالقوة، ولا بالعنف، لأنه لو انتشر الإسلام بالسيف لزال الإسلام يوم أن زال السيف، فهذه بريطانيا كانت الشمس لا تغيب عن ملكها بفعل السيف فلما زال السيف زالت، لكن سيف الإسلام-على حد قول هؤلاء- زال، ولكن بفضل الله ورحمته نرى وجوهاً جديدة تدخل كل يوم في دين الله أفواجا، فديننا الإسلامي انتشر بالأخلاق، بالقدوة الصالحة، بالحكمة والموعظة الحسنة، هذا ما تحلى به التجار المسلمون يوم طافوا البلاد بأخلاقهم الكريمة وصفاتهم الطيبة، فدخل الناس في دين الله أفواجا.
إن الحرية الدينية شيء شرعه وابتكره ديننا الإسلامي الحنيف، فصيحة (لي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ) (سورة يونس الآية 41)، هذه الصيحة لم تعرف إلا في كتابنا العظيم، كما وأن صيحة: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (سورة الكافرون الآية 6) ، هذه الصيحة لم تُعرف إطلاقاً في ملة أخرى.
لقد كان العالم كله وقتئذ يعيش في برك من الدماء، وصراع آثم حول إكراه الناس على العقائد حتى جاء القرآن الكريم يقول للناس: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (سورة البقرة الآية 256).
وعندما نتصفح كتب التاريخ فإننا نجد صفحات مشرقة عن التسامح الإسلامي مع أهل الديانات الأخرى، وعن الأسلوب الطيب الذي اتبعه المسلمون في احترام الآخرين،
نقرأ أمثلة حية على ذلك، حيث نجد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- يرفض أن يصلي في الكنيسة التي عرض عليه أسقف بيت المقدس أن يصلي فيها لماذا؟ حرصاً من عمر على بقاء الكنيسة لأصحابها ، فقد قال للأسقف: لو صليت هنا لوثب المسلمون على المكان وقالوا: هنا صلى عمر وجعلوه مسجداً !!
كما نلاحظ المعاملة الطيبة من المسلمين تجاه أهل الكتاب وهذا ما دفع الكثير من أهل الكتاب للدخول في هذا الدين الجديد لأنهم وجدوا فيه ضالتهم من السماحة واليسر والمحبة والأخوة.
فهذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد مرت عليه جنازة يهودي، فقام النبي – صلى الله عليه وسلم-لها، فقيل له: إنها جنازة يهودي فقال: «أليست نفساً» (أخرجه البخاري).
وهذا أمير المؤمنين – عمر بن الخطاب – رضي الله عنه، يرى شيخاً متوكئاً على عصاه وهو يسأل الناس، فسأل عنه فقيل إنه كتابي، وفي رواية- نصراني-فقال: «خذوا هذا وضرباءه إلى بيت المال، فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته وتركناه عند شيبه» (كتاب الخراج لأبي يوسف)، كما وروي أن عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما- ذُبحت في بيته شاه فقال: أهديتم لجارنا اليهودي منها، قالوا: لا، قال أهدوا إليه، فإني سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) (أخرجه الإمام البخاري).
إن صيحة (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) (سورة الكهف الآية (29)) تظهر عظمة هذا الدين، تظهر مدى مخاطبته للعقول لتختار بين طريق الإيمان وطريق الكفر، طريق الخير وطريق الشر، طريق الحق وطريق الباطل، فالإسلام لم يفرض على النصراني أن يترك نصرانيته، أو على اليهودي أن يترك يهوديته، بل طالب كليهما – ما دام يؤثر دينه القديم- أن يدع الإسلام وشأنه، يعتنقه من يعتنقه، دون تهجم مر، أو جدل سيء.
إن التسامح الذي عامل به الإسلام غيره، لم يعرف له نظير في القارات الخمس، ولم يحدث أن انفرد دين بالسلطة، ومنح مخالفيه في الاعتقاد كل أسباب البقاء والازدهار مثل ما صنع الإسلام، وفي أي مجتمع يضم أناساً مختلفي الدين، قد يثور نقاش بين هؤلاء وأولئك، وهنا نرى تعاليم الإسلام صريحة في التزام الأدب والهدوء» {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ..} (سورة العنكبوت الآية 46). فالأخوة الإنسانية هي الأساس الذي تقوم عليه علاقات الناس، حيث إن القرآن الكريم وضع دستوراً للعلاقة بين المسلمين وغير المسلمين أياً كانت ديانتهم كما في قوله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (سورة الممتحنة الآيات 8-9).
كما أننا نجد أن العهدة العمرية التي أرسى قواعدها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- مع بطريرك الروم صفرونيوس في السنة الخامسة عشرة للهجرة تمثل لوحة فنية في التسامح الإسلامي الذي لا نظير له في التاريخ، حيث نصت العهدة على حريتهم الدينية، وحرمة معابدهم وشعائرهم: (هذا ما أعطى عبد الله: عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود…). لذلك نرى التسامح سائداً بين المسلمين والمسيحيين في فلسطين، حيث إنهم يسيرون على هدي العهدة العمرية، وهذه العلاقة الطيبة بينهم ما زالت وستبقى إن شاء الله، كما ونلاحظ العلاقة الطيبة بين المسلمين والمسيحيين أيضاً في بلاد عديدة.
ولعل من أشهر النماذج على احترام المسلمين لغيرهم قصة القبطي مع عمرو بن العاص- رضي الله عنه- والي مصر، حيث ضرب ابن عمرو بن العاص ابن القبطي بالسوط لأنه سبقه في السباق، وقال له: أنا ابن الأكرمين! فما كان من القبطي إلا أن ذهب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- في المدينة المنورة وشكا إليه عمرو بن العاص وابنه، فاستدعى الخليفة – رضي الله عنه- عمرو بن العاص وابنه، وأعطى السوط لابن القبطي، وقال له: اضرب ابن الأكرمين، فلما انتهى من ضربه التفت إليه عمر وقال له: أدرها على صلعة عمرو، فإنما ضربك بسلطانه، فقال القبطي: إنما ضربتُ مَن ضربني، ثم التفت عمر إلى عمرو وقال كلمته الشهيرة: «يا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً».
فالإسلام لا يفرق بين المسلم والذمي في المعاملات العامة لأن الجميع سواسية أمام القانون، لا تفضيل ولا محاباة حتى وإن كان أحد الخصمين مسلماً رفيع المكانة والآخر يهودياً أو مسيحياً.
وقد كثرت الأحاديث الخاصة بتحذير المسلمين من ظلم غير المسلم أو انتقاصه حقه أو إلحاق الأذى به، حيث يقول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: (من ظلم معاهداً أو انتقصه حقًا، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة) (أخرجه أبو داود).
ومن الجدير بالذكر، أن معركة طاحنة قد جرت بين الروم المسيحيين والفرس المجوس في أول عهد الإسلام، وكان النصر فيها للمجوس المشركين، وفرح المشركون في مكة بذلك النصر وشمتوا بالروم، فيما ابتأس المسلمون بسبب هزيمة المسيحيين من أهل الكتاب، ولما نزلت الآيات الكريمة في صدر سورة الروم : (ألم * غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ، لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (سورة الروم الآيات1-6)، ابتهج المسلمون بهذا النصر الكبير.
هذا هو المنهج الإسلامي القويم في التسامح مع الآخرين ، وفي علاقة التعايش السلمي المبني على الوفاق والعدل مع غير المسلمين، ما داموا على العهد والميثاق محافظين ، وتلكم هي سماحة الإسلام التي أثرت الكون كله منذ سطوع فجره، ونثرت على الإنسانية بردها وسلامها وخيرها وأمانها (صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ) (سورة البقرة الآية 138).
الشيخ الدكتور يوسف جمعة سلامة
خطيـب المسـجد الأقصـى المبـارك