تأخر زواج الفتيات (1/3)
لبنى شرف
الزَّواج سنَّة من سنن الأنبِياء والمرسلين – عليهم السلام – وفيه مصالح وفضائل جليلة وعظيمة، للرّجال والنساء والأمَّة جمعاء؛ قال – عليه وآلِه الصَّلاة والسَّلام -: ((يا معشر الشباب، مَن استطاع منكم الباءة فليتزوَّج؛ فإنَّه أغضُّ للبصَر، وأحْصن للفرْج، ومَن لَم يستطِع فعليْه بالصَّوم؛ فإنَّه له وجاء))؛ رواه مسلم في صحيحه (1400).
فالزَّواج إعفاف للنَّفس وصيانتها عن الحرام، وتطْهير للمجتمع من الفاحشة؛ لما فيه من إرْواء للغريزة الجنسيَّة، وهو سكَن وطمأْنينة وترْويح للنَّفس لما يحصل به من الأُلفة والمودَّة والانبِساط والإيناس بين الزَّوجين، وفيه إشْباع لغريزة الأبوَّة والأمومة من خلال تكْوين الأسرة الصَّالحة وإنجاب الأولاد، وهو خير وسيلة لتكْثير النَّسل.
وجاء في "المُغْني" لابن قدامة في مصالح النِّكاح أنه: "يشتمل على تحْصين الدين وإحرازه، وتحصين المرْأة وحفظها والقيام بها، وإيجاد النَّسل، وتكثير الأمَّة، وتحْقيق مباهاة النَّبي – صلَّى الله عليْه وسلَّم – وغير ذلك من المصالح الرَّاجح أحدُها على نفل العبادة".
وتختلف مشروعيَّة الزَّواج باختلاف الأحوال: من خوف العنَت وعدم الصبر، ومن القوَّة على الصَّبر وزوال خشية العنت، ففي حين يكون واجبًا في حقّ بعض، يكون مستحبًّا في حقِّ آخرين، وقد يكون حرامًا – كما قال الإمام القرطبي – فيمَن تعْلم من نفسِها العجز عن القيام بِحقوق الزَّوج، فهذه يحرم في حقِّها الزَّواج.
وعليه؛ فمِن النساء من تتُوق نفسها إلى الزَّواج، ولكن تأخّر زواجها، فإلى حين أن يهيِّئ الله لها الزَّوج الصَّالح، ماذا تصنع؟ هل تُطلق لنفسها العنان حتَّى تقع في المحظورات والمنكرات كشأن ضعيفات الإيمان؟ أم تبقى تندب حظَّها إلى أن تصاب بالأمراض النَّفسيَّة؟!
إنَّ هذه شدَّة، و"إصابة العباد بالشدَّة هي امتحان وبلاء، واختبار وفتْنة، والَّذي يستيقظ لهذه الحقيقة يفيد من الشدَّة، ويعتبر بالبلاء، ويكسب من ورائهما حين يستيقظ، والألم لا يذهب ضياعًا إذا أدرك صاحبُه أنَّه يمرُّ بِفترة امتحانٍ لها ما بعدها إن أحسن الانتِفاع بها، والألم يهون على النَّفس حين تعيش بهذا التصوُّر، وحين تدخر ما في التَّجربة المؤْلِمة من زاد للدُّنيا بالخبرة والمعرفة والصَّبر والاحتمال، ومن زادٍ للآخرة باحتِسابها عند الله، وبالتضرُّع لله، وبانتظار الفرَج من عنده وعدم اليأس من رحْمته".
هي مأمورة ابتِداء بالاستعفاف، ولا بدَّ من زاد يُعينها، ولا خير من التقوى، فهي: "زاد القلوب والأرْواح، منه تقتات، وبه تتقوَّى وترف وتشرق، وعليه تستنِد في الوصول والنَّجاة، وأولو الألباب هم أوَّل مَن يدرك التَّوجيه إلى التقوى، وخير مَن ينتفع بهذا الزَّاد".
عليها أن تشغل وقتَها بكل ما هو نافع ومفيد لها في دينِها ودنياها، فتكْثر من العبادة، من صلاة وصيام و…، فهي زاد الطَّريق ومدد الرُّوح وجلاء القلب، ولقد كان – عليه وآلِه الصَّلاة والسَّلام – إذا حزبه أمر فزعَ إلى الصلاة، هذا وهو الوثيق الصِّلة بربه، فكيف حالنا نحن؟!
وتكْثِر من الأعمال التَّطوُّعيَّة والخيريَّة، وتتفقَّه في دينها، وتطْلب العلم النَّافع، وتنشط وتُساهم في الأعمال الدعويَّة بحسب طاقتها وقدْرتها وما يسَّرها الله له.
عليْها باختصار أن تفيد من هذه المرْحلة ومن هذا الوقت، وتستغلُّه بشكل يعود بالنَّفع عليها وعلى أمَّتها، لا أن تبْقى حبيسةَ فكْرة أنَّها لَم تتزوَّج بعد وغيرُها تزوَّج، فهذا قدَر الله، وعليْها أن تفرَّ من قدَر الله إلى قدَر الله، وتدْفع الأقْدار بالأقدار، كما يُدفع المرَض بالدَّواء، والجهْل بالمعرفة، والفقْر بالعمل.
يقول عبدالقادر الجيلاني: "لكلِّ حالة من أحْوال الحياة – سعادة كانت أم شقاء – زمنٌ تحلُّ فيه وآخَر تنتهي عنده، وأزمانُها هذه لا تتقدَّم ولا تتأخَّر؛ ولذلك فالمطلوب من الإنسان أن يعالِج هذه الأحْوال بالوسائل المشروعة، مع الانتِظار حتَّى تسفِر الحالة عن ضدِّها بمرور زمنها وانقضاء أجلها؛ فمَن طلب ضوء النَّهار بين العشاءَين لا يحصل عليه، ولو أنَّه طلب إعادة اللَّيل بعد حلول النَّهار لم تجب دعوته؛ لأنَّه طلب الشيء في غير وقته فيبقى ساخطًا، ومن شأن هذا القلق والسخط أن يُفضي به إلى سوء الظَّنّ بالله، والتخبُّط في معالجة الأقدار، فتفضي الحالة السيِّئة إلى ما هو أسوأ".
ويقول سيّد قطب: "والنَّفس البشريَّة قد تستغْرِقها اللَّحظة الحاضرة وما فيها من أوضاع وملابسات، وقد تغلق عليها منافذ المستقبل فتعيش في سجن اللَّحظة الحاضرة، وتشعر أنَّها سرمد وأنَّها باقية، وأنَّ ما فيها من أوضاع وأحوال سيرافقُها ويطاردها، وهذا سجن نفسيٌّ مغلق مفسد للأعصاب في كثير من الأحيان، وليست هذه هي الحقيقة، فقدَر الله دائمًا يعمل، ودائمًا يغيِّر، ودائمًا يبدل، ودائمًا ينشئ ما لا يجول في حسْبان البشَر من الأحوال والأوضاع، فرجًا بعد ضيق، ويسرًا بعد عسر، وبسطًا بعد قبض، ويُريد الله أن تستقرَّ هذه الحقيقة في نفوس البشَر؛ لتظلَّ أبواب الأمل في تغْيير الأوضاع مفتوحة دائمة، ولتظلَّ نفوسهم متحرِّكة بالأمل، نديَّة بالرجاء، لا تغلق المنافذ، ولا تعيش في سجْن الحاضر، واللَّحظة التَّالية قد تحمل ما ليس في الحسبان؛ {لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1]".
إذًا؛ فلا بدَّ من الصَّبر والاستعانة بالله، والحكْمة في التعامل مع الأمور، فلكلّ أمر وحادثة قدر، والدَّعوة المستجابة تُستجاب، ولكنَّها تتحقَّق في أوانها الَّذي يقدره الله بحكمته، غير أنَّ النَّاس يستعجلون! وغير الموصولين بالله يملُّون ويقنطون! ثمَّ مَن يدْري فلعلَّ الخير في تأخُّر الزَّواج أو عدمه أصلاً؛ فالخيرة فيما اختاره الله، فكم مِن محنة تجرَّعها الإنسان جاءه مِن ورائها من الخير ما لم يأتِه من الرخاء والنَّعيم! وكم من مكْروهات كان من ورائها الخير العَميم، ولذَّات ومحبوبات كان من ورائِها الشَّر العظيم!
فالإنسان لا يعلم، والله وحْده هو الَّذي يعلم، ونظْرة الإنسان تبْقى قاصرة ومحدودة؛ إذًا فليستسْلِم وليرْض بقضاء الله، ولكن بعد أن يأخُذ بالأسباب ويعمل ما يستطيع؛ {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
يزاج الله كـــــــــــل خير