الحمد لله رب العالمين , يُثيب العاملين ويحبُّ المحسنين , وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له أمر بالعدل والإحسان , ونهى عن الظلم والعدوان وتوعَّد الظالمين .
وأشهد أنَّ محمَّداً عبده ورسوله بعثه الله رحمة للعالمين , وحجَّة على العباد أجمعين , صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أمَّا بعدُ فيَا عبَاد الله : اتقوا الله سبحانه وأحسنوا إن الله يحب المحسنين .
أيُّها المسلمُون : دين الإسلام دين الرحمة , فرحمته عمَّت جميع الخلائق ولا سيَّما الضعفاء والمساكين الذين لا حول لهم ولا قوة , فرعايتهم والعناية بهم عمل صالح وسببٌ للنصر والرزق , قال r : (( ابغوني ضعفاءَكم فَإنَّما تُنصرونَ وتُرزقونَ بضعفائِكم بِدعائِهِم واسْتغفارِهم )) .
ومن هؤلاء الضعفاء الذين لا يهتدون لمصالحهم اليتيم , فلقد أولاه الإسلام عناية خاصة وبيَّن ما يجب نحوه من كفالة وإحسان , وحذَّر من ظُلمه والإساءة إليه , أو التعدِّي عليه وأخذ ماله , ورتَّب على ذلك الوعيد الشديد , واليتيم هو من فقد أباه في حال الصغر , قال الله تعالى في شأن نبيه وخليله محمد r {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى } الضحى6
أيُّها المسلمُون : جعل الله الإحسان إلى اليتيم ورعايته عملاً عظيماً جزاؤه الجنة , وذلك يُشعر اليتيم أنه إن كان قد فقد أباه فقد وجد في الرحماء آباءً يعطفون عليه , ويجودون بالإحسان إليه , ويتولَّون أمره ويقومون بشأنه , فلا تنكسر نفسه ولا يشعر بذلَّة أو حزن حينما يرى كل ولد بجوار أبيه يقبل بفرح إليه , ويرتمي في أحضانه , لأنه وجد في المسلمين أكثر من واحد يصنع معه ذلك .
ولقد ذكر الله U شأن اليتيم في كتابه العظيم في ثلاثة وعشرين موضعاً , فقرَّر حقَّه كاملاً ورفع عنه كل ظلم وجور , فسبحان أرحم الراحمين الذي هو أرحم بعباده من الوالدة بولدها .
أيُّها المسلم :إنَّك لو تأمَّلت في الآيات والأحاديث الواردة في شأن إكرام اليتيم والعطف عليه والإحسان إليه لوجدتها تضع اليتيم الأجنبي بعد الأقرباء في الأهمية , فما بالك باليتيم إذا كان قريباً , قال تعالى : {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (11-16) سورة البلد , وقال تعالى في شأن البرِّ : {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} (177) سورة البقرة , وقال سبحانه وتعالى : {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (215) سورة البقرة .
أيها المسلمون : ولمَّا كان هذا اليتيم الصغير لا يستطيع القيام بشؤون نفسه نصَّب الإسلام عليه وصيَّاً يتفقد حاله ويصلح شأنه , ويحفظ ماله وينميه إلى أن يصل هذا اليتيم إلى مرحلة الفهم والإدراك وحسن التصرف فيسلمه هذا الوصي ماله , ولا بد أن يكون هذا الوصي معروفاً بالرشد وحسن التصرف والأمانة وحسن الأخلاق , قال الله تعالى : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (220) سورة البقرة .
أيُّها المسلمون :إنَّ رعاية أمور اليتيم والقيام بالإصلاح له يشمل كل احتياجاته التي يحتاجها أمثاله , ومن ذلك حُسن تربيته , وتعليمه التعليم المناسب لأمثاله , وحفظه من الضياع ومُصاحبة المفسدين , وكذلك الإهتمام بماله حِفظاً وتنمية .
ولقد رغَّب الإسلام في كفالة اليتيم ورتَّب على ذلك الجزاء العظيم , قال النبي r : (( كَافلُ اليتيمِ لهُ أو لغيرهِ أنَا وهوَ كهاتينِ في الجنَّةِ , وأشارَ بالسَّبابةِ والوُسطى )) . [رواه مسلم] . ومعنى (( لَه أو لغيرهِ )) : أي قريبه أو الأجنبي منه , فالقريب مثل كفالة أمِّه له أو جدِّه أو أخيه أو غيره من قرابته , وقال أيضا r : (( أنَا وكافلُ اليتيمِ في الجنةِ هكَذا )) وأشار بالسبابة والوسطى وفرَّج بينهما . [رواه البخاري وغيره] .
قال (ابن بطال) رحمه الله : ( حقٌّ على من سمع هذا أن يعمل به ليكون رفيق النبي r في الجنة , ولا منزلة أفضل من ذلك في الآخرة ) .
وقال النبي r : (( السَّاعي عَلى الأرملةِ والمسكينِ كالمجاهدِ في سبيلِ اللهِ (وأحسبه قال) وكالقائِمِ الذي لا يفتُرْ , وكالصَّائمِ الذي لا يُفطر )) . [متفق عليه] . وهذا الحديث له صلة بما نحن فيه , حيث إن الأرملة وهي التي لا زوج لها قد تكون قائمة برعاية يتامى في حجرها , فتكون رعايتها والسعي عليها رعاية لها ولمن عندها من اليتامى فينال السَّاعي ثواب الإثنين معاً , فما أعظمه من ثواب وإن زهد فيه كثيرون .
أيُّها المسلمون : ولقد حذَّر الإسلام من التصرف بمال اليتيم إلاَّ بما يعود عليه بالمصلحة والمنفعة , قال الله تعالى : {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}(152) سورة الأنعام , فإذا بلغ أشدَّه فيجب أن يسلم له جميع ماله ولا يجوز للوصي أن يبخس أو يأخذ منه شيئاً إلا بطيبة نفس من اليتيم بعد أن يبلغ أشده ويحصل رشده , فكل تصرف في مال اليتيم لا يقع في دائرة ما هو أحسن فهو محظور ومنهيٌّ عنه , فأكل ماله طمعاً فيه واستضعافاً له محرم ومنهي عنه , وتجميد ماله وعدم استثماره بالزراعة أو الصناعة أو التجارة محرم ومنهي عنه , وإهماله وعدم صيانته محرم ومنهي عنه , قال النبي r : (( اللهمَّ إنِّي أحرِّج حقَّ الضعيفينِ اليتيم والمَرأة )) . [رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة وهو حديث حسن] . ومعنى الحديث : أي أُلحق الإثم بمن ضيَّع حقهما وأحذر من ذلك تحذيراً بليغاً .
أيُّها المسلمون : وإذا بلغ اليتامى مبلغ الرجال وعُلم رشدهم فيجب دفع أموالهم إليهم , قال تعالى : {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}(6) سورة النساء , فالله سبحانه وتعالى أمر بابتلاء اليتامى وهو اختبار عقولهم وتصرفهم في أموالهم , ولا يكون الإبتلاء قبل بلوغ النكاح , فإذا علمتم حسن تصرفهم بعد بلوغهم فادفعوا إليهم أموالهم ليتولوها بأنفسهم , فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأَشْهِدوا عليهم حتى لا يجحدوا تسلُّمها .
وأيضاً فإن الإشهاد يقتضي المحاسبة للأولياء على تصرفاتهم في أموال اليتامى وهذه المحاسبة تقتضي المراجعة والتدقيق قبل أن يشهدوا وفي هذا ضمان لحقِّ اليتيم , كما أن في الإِشهاد فائدة أخرى وهي أن دعوى الأوصياء أنهم دفعوا إلى اليتامى أموالهم لن تُسمع ولن تُقبل إلا أن يكون هناك من يشهد على صحة ذلك , وإلا اعتُبروا آكلين لها بغير حق وكفى بالله حسيبا .
أيُّها المسلمون :وللوصيِّ أن يأكل من مال اليتيم بالمعروف إذا كان محتاجاً إلى ذلك , أما إن كان غنيَّاً بماله عن مال اليتيم فليستعفف فهو خير له , قال تعالى : {وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} , ولقد حذر الله تعالى الأوصياء من الظلم لليتامى الذين جعلهم الله تحت رعايتهم ووصايتهم وأمرهم بالإحسان إليهم , فكما تخشى –أيها المسلم- على أولادك الصغار الضِّعاف بعد موتك فعليك بتقوى الله في هؤلاء الأيتام , ثم بيَّن الله تعالى الوعيد الشديد على من يأكل أموال اليتامى ظلماً فقال سبحانه : {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (9-10) سورة النساء , كما حذر –سبحانه وتعالى- من استبدال الرديء من مال الوصيِّ بالطيب من مال اليتيم , قال تعالى : {وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} (2) سورة النساء , أي إثماً كبيراً .
فاحذروا أيها الأوصياء من أكل مال اليتيم فإنه من الموبقات , قال النبي r : (( اجتَنبوا السَّبعَ الموبقَات , قيلَ يَا رسولَ الله ومَا هنَّ ؟ فذكرهن إلى أن قال : وأكلُ مالِ اليَتيم )). [رواه البخاري ومسلم وغيرهما] , قال ابن دقيق العيد رحمه الله : ( أكلُ مال اليتيم مجلَبٌ لسوء الخاتمة ) والعياذ بالله .
أيُّها المسلمُون : هذا في شأن اليتيم الذي له مال , أما اليتيم الفقير الذي لا مال له , فقد جعل الله له نصيباً من تركات المتوفين إذا حضر قسمة التركات ما لم يكن وارثاً , قال تعالى : {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا } (8) سورة النساء , قال ابن عباس رضي الله عنهما : إنها محكمة وليست بمنسوخة . [ذكره البخاري في صحيحه] .
عبادَ الله : إن خير البيوت بيت فيه يتيم يُحسن إليه , وإن شرَّ البيوت بيت فيه يتيم يُهان ويُساء إليه , فلقد نهى الله U عن ازدراء اليتيم وإهانته , وقهره واحتقاره , قال تعالى : {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ } (9) سورة الضحى , وذلك لضعفه , والضعف غالباً يثير الطمع في الضعيف , وجعل الاستخفاف به والجفاء نحوه من علامات التكذيب بهذا الدين , قال تعالى : بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}
منقووووووووول
https://www.attaweel.com/vb/showthread.php?p=36182
بارك الله فيكِ لـ طرحكِ القيمَ