الإحسان.. هو الإطار الذي يستوعب أعمال الإنسان الحميدة، يقول نبي الرحمة – صلى الله عليه وسلم- عنه: (أن تعبُد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
إن هذا الحديث يستطبن معنىً عميقاً لم يعد الناس يهتمون به من كثرة سماعهم لهذا الحديث، فإن الإحسان ليس أن تعبد الله وتدري أنه يراك، بل أن تعبد الله كأنك أنت تراه، فإن هذا المعنى يولّد مجموعة عظيمة من المعاني، يولد العمل مع حب الله سبحانه وتعالى؛ لأنك إذا رأيت الله، واستشعرت أسمائه وصفاته من الرحمة والعظمة، والحلم والعلم، والكرم والجود، والعفو والصفح، ولّد هذا حباً لله سبحانه وتعالى، وأوجد عندك التعظيم له..
فيعمل المؤمن وهو يحب الله ويرجوه، ويخافه ويعظمه، ويتذلل لله؛ لأنه يستشعر ضعفه أمام الله وحاجته في كل ذرة ونفس من كيانه في كل لحظة من عمره، وأنه يفتقر أشد الفقر لله سبحانه، وإذا عمل المؤمن بهذا الشعور، وطلبه بهذا المستوى فإنه سيؤدي العمل والعبادة على أكمل وجه؛ لأن جميع الطبائع البشرية وجميع المشاعر تتحرك في جسده لله عز وجل، فهو بالله يأكل ويشرب، ويعمل ولله يفعل، (فإن لم تكن تراه فإنه يراك): لا أحد يرى الله سبحانه في الدنيا، ولا أحد يستطيع ذلك، ولكن إن لم تستطع أن تكون كأنك ترى الله فلا يفوتنك أن تشعر برؤية الله لك ومراقبته.
هذا هو أعظم الإحسان وأساسه، ومنه تنبثق فروع الإحسان؛ الإحسان إلى: الخلق، إلى الوالدين "وبالوالدين إحساناً"، وإلى القريب والجار، والصديق والعشرة الزوجية والناس، بل حتى الطلاق يحتاج لإحسان "فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ"، والتشريع الإسلامي يذهب إلى أبعد من هذا؛ إلى الإحسان في القتل أيضاً!، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان إلى كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحدّ أحدكم شفرته ويرح ذبيحته).
فالإحسان، إحسان القلب يحب الله وخوفه ورجاءه، وإحسان الجوارح بعبادة الله، وإحسان اللسان بطيب الكلام، إحسان إلى الأقربين والأبعدين، وإحسان إلى الأصدقاء والأعداء، وإلى المؤمنين وغير المؤمنين، يقول الله عز وجل: "وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً"، قال ابن عباس: الناس: المؤمن والكافر واليهودي والنصراني..
عمر بن الخطاب يحسن إلى قبطي، ويرد إليه حقه، وقال لعمرو بن العاص: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهم أحراراً؟
وعمر بن عبد العزيز يأمر بسحب الجيش الإسلامي من بخارى؛ لأنه يفتقد الشرعية الدينية.
فهذه النماذج وغيرها سيرة حياتية عملية مطبّقة لم تكن شعارات ترفع، بل كانت ممارسة حقيقة عفوية تنطلق من قلوب صادقة؛ أحسنت بالإيمان بالله سبحانه وتعالى، فأحسنت إلى عباد الله.
ووجوه الإحسان هي بحسب الإنسان، وبحسب موقعه، وبحسب قدرته، وبحسب اهتمامه، إحسان بالمال والجهد والعلم والعمل والجاه والمنصب، والشفاعة والمشورة والنصيحة والتوجيه، وبذل الوقت والمؤانسة والكلام الطيب، يقول أبو الطيب:
لا خيل عندك تهديها ولا مالُ فليسعف النطق إن لم تسعف الحالُ
وإحسان بالكرم والجود، وحسن الخلق وحسن العشرة، وإحسان للحيوان، كما في البغي التي سقت كلباً..
كل ذلك من الإحسان، قوله تعالى :. {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
إن أنفسنا لها حق علينا عظيم، وعلينا واجب الإحسان إليها، بالتطوير الذاتي، وتنمية القدرات، وتحسين أداءها، ورعايتها نفسياً وصحياً، والأهم: عملياً وعقلياً، ومحاسبتها، ومراقبة خطواتها، من أجل تحسين وضعها؛ لتكون بقدر المهمة التي تستحقها من الاستخلاف في الأرض، والقيام بعمارتها على أتم وجه وأحسنه، كما يريد الله سبحانه وتعالى، وإن كل إحسان يقدمه المرء فهو لنفسه، وعائد عليه بالحسنى والتفضل، يقول الله عز وجل: "إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ"، ولن يعدم المحسن عرفاناً بالجميل في الدنيا أو الآخرة، أو كليهما:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله الناسِ