بسم الله الرحمن الرحيم
رزقنا الله من الطيبات، وأمرنا بالاعتدال في المأكل والمشرب والإنفاق، ولكن يغيب عن البعض ضرورة ترشيد الإنفاق، وعدم التبذير فيما حباهم الله من أموال ورزق؛ إذ يظنون أن المال مالهم، ولا ينتبهون إلى أننا سنحاسب يوم القيامة عليه مرتين "… من أين اكتسبه وفيما أنفقه".
وفي الدول الخليجية -حيث وفرة الموارد الاقتصادية- يجتهد البعض في الإنفاق مما رزقهم الله في العمل الخيري، ولكن يصرف آخرون أموالهم على المظاهر الخادعة، والتباهي والتكبر على عباد الله، ومحاكاة الأغنياء؛ وهو ما قد يجلب عليهم الديون، ويحرمهم الحسنات التي كان من الممكن أن تعود عليهم بالخير إن أحسنوا الإنفاق.
وتتعدد صور التبذير في الخليج؛ منها: الاهتمام المبالغ فيه بالسيارات، وخاصة أشهر الماركات العالمية، ويقومون بتغييرها سنويا حسب أحدث الموديلات، وأيضا يسعى الكثيرون لتملك أكثر من هاتف جوال، من أغلى وأحدث الماركات، كما يخصص الأهل أرقام جوال للأطفال دون سن الثانية عشر.
وتنتشر بين الفتيات عادات كثيرة؛ حيث تبالغ غالبيتهن في زيارة صالونات التجميل؛ وهو ما دفع أصحابها لاستغلال ذلك ورفع الأسعار، ومنهن من لا تتوقف عن شراء كل ما يقع تحت أنظارها دون حاجة؛ مثل التنافس على شراء الملابس والفساتين والإكسسوارات والساعات والحقائب والأحذية التي قد تلبس لمرة واحدة فقط!.
وصار السفر المتكرر إلى الدول الغربية للسياحة جلابا للتفاخر والوجاهة، وكذلك تمديد ليالي الاحتفالات بالعرس لإحياء كل ليلة؛ فيكون هناك يوم للملكة ويوم للشبكة وليلة للفرح، وأخرى للغمرة، وفرح خاص لأهل العريس وفرح خاص لأهل العروس وأحيانا يحيي العريس ليلة خاصة بالرجال قبل الفرح بأسبوع.
وفي الغالب تقيم هذه الاحتفالات كل الطبقات بتكاليف مرهقة، تضطر بعضهم إلى الدَّيْن والسلف. والتنافس على أغلى المطربات وإحياء الاحتفالات في أفخم القصور. وقد أضحى التبذير جزءا من الثقافة الشرقية لتكاثر وتزايد القصص التي تحكي عن حياة المبذرين الذين يضيعون أموالاً كثيرة دون جدوى تحققها أو نفع تحدثه.
داء فتاك
يؤكد الشيخ خالد بن عبد الله المصلح -أستاذ الفقه بكلية الشريعة بجامعة القصيم- أن الإسراف والتبذير داء فتاك يهدد الأمم والمجتمعات، ويبدد الأموال والثروات، وهو سبب للعقوبات والبلايا العاجلة والآجلة.
وبيّن أن الإسراف سبب للترف الذي ذمه الله تعالى، وعابه وتوعد أهله في كتابه؛ إذ قال تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ}.
وأوضح المصلح أن الإسراف يؤدي بصاحبه إلى الكبر، وطلب العلو في الأرض؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: "كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ما لم يخالط إسراف ولا مخيلة" (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه).
وأضاف: "سيسألنا الله عن أموالنا، من أين اكتسبها الإنسان، وفيم أنفقها؟ لذا يجب التوبة من هذا الداء فورا، قبل أن يباغتنا الموت".
دين الوسطية
وأشار المصلح إلى أن تقوى الله لا تتم للعبد إلا بالأخذ بمكارم هذه الشريعة وفضائلها علمًا، وامتثالها في الحياة واقعا وعملا. ومن معالم هذه الوسطية ما ذكره الله تعالى في كتابه: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما}، أي إنهم كانوا في نفقاتهم الواجبة والمستحبة على العدل والوسط بلا شطط. فعباد الرحمن هم الحكماء العدول في نفقاتهم، لا يتجاوزون ما حده الله وشرعه، ولا يقصرون عما أمر به وفرضه.
وانتقد غياب ذلك السلوك في الواقع الذي نعيشه اليوم؛ مشيرا إلى أن "الكثير من الناس يعيشون غياب هذه الخصلة في جوانب عديدة من الحياة. وقد نهى الله عن الإسراف والتبذير في آيات كثيرة فقال تعالى: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}، وقال جل ذكره: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورا}، وقال سبحانه: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُورا}.
كما نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإسراف في الأمر كله، ولو كان في الوضوء. فكان النبي يتوضأ ثلاثا ثلاثا، ثم يقول: "هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم". فالنفوس تصاب عند الغنى وكثرة العرض ووفرة المال بالطغيان.
وتطرق إلى صور ومظاهر التبذير حيث قال: "ظهرت في حياة الناس مظاهر الإسراف والتبذير؛ ومنها الإسراف في المآكل والمشارب؛ فترى من الناس من يجتمع على مائدته من ألوان الطعام وصنوف الشراب ما يكفي الجماعة من الناس، ومع ذلك لا يأكل إلا القليل من هذا وذاك ثم يلقي بقيته في الفضلات والنفايات.
ومن معالم التبذير: الإسراف في المراكب والملابس والمساكن، فتجد أقواما تحملوا الديون العظيمة، ليحصل أحدهم على السيارة الفارهة أو الثوب الفلاني أو المسكن الفاخر. وهذا تكاثر وتفاخر، سفه في العقل، وضلال في الدين".
إنه لا يحب المسرفين
ويوضح د. محمد بن عبد الله الخضيري -عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم- أن الله سبحانه لا يحب المسرفين، وكفى بهذا زاجرا ورادعا عن الإسراف؛ لأنه يحرم عن الشخص محبة الله، ويجلب عليه سخطه ومقته".. متسائلاً: "وأي خير يبقى للإنسان؟! بل أي سماء تظله، وأي أرض تقله إن لم يحبه مولاه وخالقه؟".
ويؤكد سلمان بن محمد العُمري -مدير عام إدارة الإعلام والعلاقات العامة بوزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية- على أن المجتمعات الخليجية صارت استهلاكية.
وأوضح العُمري بأن الإسراف "رزية غير مقبولة في الحياة الإسلامية الصحيحة، وكذلك في كل مناحي الحياة واتجاهاتها ومرافقها الخدمية؛ حيث يقول تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}.
ونتيجة لتمادي الخليجيين في داء التبذير أصبح العالم يعاملنا -كمجتمعات خليجية- بالتعاطي مع هذه العادة السيئة، فترى البضائع تباع لنا بأسعار أغلى مما تباع لغيرنا. داعيا إلى صرف هذه الثروة بالشكل الذي يرضي الله عز وجل، فمن شكر النعمة صرفها فيما يرضي المنعم.
انعدام الثقة بالنفس
لا تبسطها كل البسط.. فتقعد ملوما محسورا
ويحلل دوافع الظاهرة د. عبد الله بن ناصر الصبيح -أستاذ علم النفس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- ذاكرا: "يعيش المجتمع الخليجي -في جملته- في قدر من الرخاء، وإن كان هناك حاجة لدى البعض، وهذا الرخاء قد يدفع البعض للتبذير، ويدفع غير القادرين لتقليد القادرين المبذرين".
وحول الصفات التي يتصف بها المبذرون؛ قال د. الصبيح: "لدى المبذر دافع قوي لمحاكاة غيره، وشعور بالثقة بالنفس والرغبة والطموح الزائد للوصول إلى مكانة اجتماعية معينة. ويمكن للمبذر أن يتوقف عن هذه العادة السلبية من خلال:
أولا: تقوى الله عز وجل، والاهتداء بهدي القرآن والسنة، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِين}.
ثانيا: عدم إثقال نفسه بالديون من أجل الكماليات؛ فقد ورد في السنة النهي عن أن يشغل الإنسان ذمته بدين.
ثالثا: لا بد للإنسان أن يستخدم عقله، وينفق قدر احتماله، فلا ينبغي أن يحمل النفس ما لا تحتمل من الديون".
ومن جهتها؛ تصف د. سعاد بن عفيف -المحاضرة بقسم الاجتماع بجامعة الملك عبد العزيز بجدة- التبذير بأنه ظاهرة سلبية مقيتة، مؤكدةً أن المبذر لا يفكر أنه يتصرف بأسلوب خاطئ، وأنه شخص مبذر، يضر نفسه ومجتمعه، لأنه لا يفكر سوى في محاكاة الآخرين.
ويعاني معظم المبذرين من مشاكل نفسية، تجعلهم يرغبون في الظهور بمظهر يهربون عبره من الواقع الذي يعيشونه.
ومن المفروض أن يكون هناك قنوات للتوعية عبر وسائل الإعلام والمساجد والمدارس، إلى جانب أهمية الإعداد النفسي للأشخاص الذين قد يسلكون هذا السلوك، من خلال بناء وتقوية المقاومة النفسية لأساليب الاستهلاك السلبية، فضلا عن أهمية العلاج النفسي لمن تأصل سلوكهم على التبذير.
ويتنافى التبذير مع أسس الإدارة والتخطيط الشخصي والمجتمعي، وهذا ما يبينه د. أيمن عبد القادر كمال -أستاذ الإدارة بكلية الاقتصاد والإدارة بجامعة الملك عبد العزيز بجدة- مشيرا إلى أن "كل خطة تحتاج إلى المال حتى ترى النور، ولكن التبذير يجعل المعادلة حرجة، وقد يؤدي بالمبذر إلى الفشل في حياته".
ويذكر في حديثه لـ"إسلام أون لاين.نت" أن أي مشروع إداري لو روعيت فيه كل الأمور العلمية، ولم يدعم بالخطط المالية الواضحة سيكون فشله مؤكدا، فكيف بالتبذير الذي يلغي أي خطط، وبالتالي سيؤدي ذلك لفشل أي مشروع.. وهو مؤثر سلبي واضح على الاقتصاد. وتحتاج ظاهرة التبذير إلى جهد من الأشخاص المبذرين؛ حتى يتعودوا على سلوك الترشيد، وعدم التعجل في القرار الشرائي.
لاتنسوا أختكن من الدعاء لها بظهر الغيب