السلام عليكن ّورحمة الله وبركاتة
تلاوة القرآن
إعداد/ مصطفى البصراتي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله صحبه وسلم ومن والاه، وبعد:
التلاوة
ويراد بترتيل القرآن: تلاوتُه تلاوةً تُبينُ حروفها ويُتأنَّى في أدائها ليكُونَ أدنى إلى فهم المعاني.
والتلاوةُ بمعنى القراءة من أعظم خصائص القرآن الكريم، فالكتب المتقدمة ليس من خصائصها هذه التلاوة.
الفرق بين التلاوه والقرآءه
القراءة أعم من التلاوة، فكل تلاوةٍ قراءة وليس كل قراءة تلاوة، لا يقال: تلوتُ رقعتك وإنما يقال في القرآن في شيء إذا قرأته وجب عليك اتباعه، كذا قال الراغب ويفهم منه أن التلاوة خاصةٌ بالقرآن الكريم مع الاتباع وليست القراءةُ كذلك، وفرَّقَ التهانَوِيُّ بين القراءة والتلاوة والأداء فقال: والفرق بينها وبين الأداء والقراءة: أن الأداء الأخذُ عن المشايخ والقراءة تُطلق عليهما معًا أي الأداء والتلاوة إذ هي أعمُّ منهما.
حسن الصوت مطلوب من القارئ
عَلَّم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ضرورة تزيين القرآن بالأصوات في عدة أحاديث كالذي رواه أبو داود عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "زينوا القرآن بأصواتكم". صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ورواه الحاكم في المستدرك بلفظ "زينوا أصواتكم بالقرآن".
وروى أبو داود في سننه وصححه الألباني عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "ليس منا من لم يتغن بالقرآن". وقال البخاري بعد ذكر أحاديث تحسين الصوت بالقرآن: "وعامة هذه الأخبار مستفيضة عند أهل العلم".
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أذن الله لشيءٍ أَذَنَهُ لنبي يتغنى بالقرآن".
وقد قيل لابن أبي مليكة: يا أبا محمد! أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت؟ قال: "يُحَسِّنُهُ ما استطاع". صحيح سنن أبي داود.
قال ابن حجر في الفتح: والذي يتحصل من الأدلة أن حسن الصوت بالقرآن مطلوب فإن لم يكن حسنًا فليحسنه ما استطاع كما قال ابن أبي مُليكة، وقد أخرج ذلك عنه أبو داود بإسنادٍ صحيح.
ومن جملة تحسينه أن يراعي فيه قوانين النغم فإن الحَسَن الصوت يزداد حسنًا بذلك وإن خرج عنها أَثَّر ذلك في حسنه، وغير الحسن ربما انجبر بمراعاتها ما لم يخرج عن شرط الأداء المعتبر عند أهل القراءات، فإن خرج عنها لم يف تحسين الصوت بقبح الأداء، ولعل هذا مستند من كره القراءة بالأنغام لأن الغالب على من راعى الأنغام أن لا يراعي الأداء، فإن وُجد من يراعيهما معًا فلا شك في أنه أرجح من غيره لأنه يأتى بالمطلوب من تحسين الصوت ويجتنب الممنوع من حرمة الأداء والله أعلم. اه فتح الباري.
معنى التزيين
تدور معاني زَيَّن على الملاحة والغاية في الحسن، قال ابن بطال: المرادُ بقوله: "زينوا القرآن بأصواتكم" المد والترتيل، والمهارةُ في القرآن جودةُ التلاوة بجودة الحفظ فلا يتلعثم ولا يتشكك وتكونُ قراءتُهُ سهلةً بتيسير الله تعالى كما يسَّره على الكرام البررة.
وقال السندي في قوله صلى الله عليه وسلم : "زينوا القرآن بأصواتكم". أي بتحسين أصواتكم عند القراءة، فإن الكلام الحسن يزيد حسنًا وزينة بالصوت الحسن، وهذا مشاهد.
معنى الحديث: "زينوا القرآن بأصواتكم":
اختلف العلماء في معناه حتى ذكر القرطبي ستة تأويلات في معناه، ونحن نذكر هنا أشهرها مما يتعلق بموضوعنا:
التأويل الأول: معناه اللهج بقراءته، وكثرة ترداده حتى يصير زينة الصوت، وحليته في الكلام، أي اشغلوا أصواتكم بالقرآن والهجوا بقراءته، واتخذوه زينة وشعارًا: فعلى هذا هو مقلوبٌ أي زينوا أصواتكم بالقرآن، والمعنى الهجوا بقراءته وتزينوا به وليس ذلك على تطريب القول والتحزين.
وقالوا: "فالزينة للصوت لا للقرآن"، وبين أصحاب هذا المذهب أنهم اضطروا إلى هذا التأويل اضطرارًا، لأنه لا يجوز على القرآن- في نظرهم- وهو كلام الخالق أن يزينه صوت مخلوق بل هو بالتزيين لغيره والتحسين له أَوْلى، ولذا فقد توقى هذه الرواية قوم، وقالوا: لم يُرِدْ تطريب الصوت به والتحزين له إذ ليس هذا في وسع كل أحد فلعل من الناس من إذا أراد التزيين له أفضى به إلى التهجين.
التأويل الثاني: وقيل هو تزيين القرآن بجمال الصوت؛ فإن القرآن قد يُخرجُ بصوتٍ جاف فظٍ يلقيه قارئه ولا يبالي بتجميله فلا تلتفت إليه القلوب لا لأنه كلام الله بل لأن المتلفظ به ما أبان البلاغ، ولا أجمل الأداء وعلى هذا فلا حاجة إلى القلب وإنما معناه الحث على الترتيل الذي أمر به في قوله تعالى: ورتل القرآن ترتيلا، فحقيقة الحديث: أنه يحث على ترتيل القرآن ورعاية إعرابه وتحسين الصوت به وتنبيه على التحرز من اللحن والتصحيف؛ فإنه إذا قرئ كذلك كان أوقع في القلب وأشد تأثرًا وأرق لسامعه، والرواية الأخرى- إن ثبتت- فهي تتميمٌ لها ف "زينوا أصواتكم بالقرآن"، أي الهجوا بقراءته واشغلوا أصواتكم به، واتخذوه شعارًا وزينة لأصواتكم كما ينبغي لكم أن تخرجوه بأحسن لفظ وأجمل أداء.
توجيه الزينة في الحديث
ويكون للحديث على هذا توجيهٌ حسنٌ جدًا إذ تكون "الزينة للمرتل لا للقرآن كما يُقال ويل للشِّعر من الراوية السّوء فهو راجعٌ إلى الراوي لا للشعر". وسماه تزيينًا: "لأنه تزيين للفظ والمعنى فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حُسنًا وفي أدائه بحسن الصوت وجودة الأداء بعثٌ للقلوب على استماعه، وتدبره، والإصغاء إليه". ويؤيد هذا المعنى للحديث الأحاديث المستفيضة الأخرى التي تحض على التحبير والترتيل والتحسين والتحزين مما هو في المستوى العلمي الضروري، كما يؤيد هذا المعنى رواية: "حسنوا أصواتكم". والمعنى: "رتلوه واجهروا به". قال الطيبي: هذا الحديث لا يحتمل القلب لتعليله بقوله فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا.
ويشهد لصحة هذا التأويل حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استمع إلى قراءته فقال: "لقد أوتيت مِزمارًا من مزامير آل داود" فقال لو علمت أنك تستمع لحبَّرتُه لك تحبيرًا أي حَسَّنتُ قراءته وزينتها، ويؤيد ذلك تأييدًا لا شبهة فيه حديث ابن عباس أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لكل شيء حلية وحلية القرآن حسنُ الصوت".
فالنبي صلى الله عليه وسلم قد علمهم تحسين الصوت بالقرآن، وتحسين القرآن بالصوت بعد أن وجدنا الروايات تذكر ذلك ولا شذوذ يظهر لنا.
وواقع المسلمين بشيبهم وشبابهم وذكورهم وإناثهم، وكبارهم وصغارهم شاهدٌ على ذلك فإنك تجد كل واحدٍ منهم لو كان أميًا إن أراد أن يقرأ غَيَّر صوته على هيئة تتشابه بينهم جميعًا وإن كانت تتفاوت في حسنها، وانضباط قواعدها في ظاهرة عجيبة تدل على مقدار الحفظ الإلهي للقرآن الكريم.
ويبقى- بعد ذلك- الاختلاف في الأصوات البشرية مسألة طبيعية، كما قال الإمام البخاري: فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن أصوات الخلق وقراءاتهم ودراستهم وتعلمهم وألسنتهم مختلفة بعضها أحسن وأزين وأحلى وأصوت وأرتل وألحن وأعلى وأخف وأغض واخشع وقال: وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا "طه: 108"، وأجهر وأخفى وأمهر وأحد وألين واخفض من بعض". ذكره البخاري في خلق أفعال العباد.
وهنا نلحظ معلمًا هامًا هو أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم تقديم حسن الصوت في الأذان؛ فأحرى أن يكون ذاك في القرآن: فعن عبد الله بن زيد قال: لما أصبحنا أتينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالرؤيا فقال: "إن هذه الرؤيا حق فقم مع بلال فإنه أندى أو أَحَدُّ صوتًا منك فألق عليه ما قيل لك فينادى بذلك". رواه ابن خزيمة.
و"أندى" أصله: من الندى أي الرطوبة يقال صوتٌ ندى أي رفيع واستعارة الندى للصوت من حيث إن من تكثر رطوبة فمه يحسن كلامه فأندى أي أرفع وأعلى وقيل أحسنُ وأعذب وقيل أبْعَدُ فالأحسن أن يراد بأندى ههنا: أحسن واعذب وإلا لكان في ذكر قوله أحَدّ بعده تكرار وعلى هذا ففي الحديث: دليل اتخاذ المؤذن حَسَن الصوت.
لكن لا يفوتنا في هذا المقام أن نؤكد على أن الأصل في إمامة الصلاة والمقدم في ذلك الحفظ وإتقان القراءة ثم يأتي بعد ذلك حلاوة الصوت ونداوته فلا يكفي أن يكون الإمام نديَّ الصوت فقط دون حفظ لكتاب الله وإتقان له.
والدليل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي مسعود البدري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواءً فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواءً فأقدمهم سلمًا- أي إسلامًا- ولا يؤمَّنَّ الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته- أي الفراش الخاص به- إلا بإذنه".
فضيلة التغني بالقرآن
بين النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة التغني بالقرآن وذلك في حديث البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "لم يأذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن". وقال صاحب له: يريد يجهر به، و(يأذن): "معناه الاستماع ومنه قوله تعالى: وأذنت لربها"، فالمعنى- كما قال أبو عبيد- يعني ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبي يتغنى بالقرآن، والمراد بالاستماع هنا الاستماع الخاص، وذلك كتفريق العلماء بين المعية العامة الواردة في قوله تعالى: وهو معكم أين ما كنتم "الحديد: 4"، والمعية الخاصة في قوله تعالى: إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون "النحل: 128"، وهو ما يعني قرب القارئ من الله تعالى وعظيم شرفه بالقراءة.
معنى التغني الوارد في الأحاديث
اختلف العلماء في معنى التغني الوارد في الحديث على قولين مشهورين:
المعنى الأول: معنى التغني الاستغناء وحدوث الكفاية به، وقد ذهب إلى هذا الإمام البخاري فقال: "باب من لم يتغنّ بالقرآن، وقوله تعالى: أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم "العنكبوت:51"، وهو مذهب سفيان بن عيينة، قال: تفسيره يستغني به.
المعنى الثاني: معناه التطريب به وتحزين القراءة وترقيقها وفق قواعد معلومة لأنه أوقع في النفوس، وأنجع في القلوب، وقد ذهب إلى هذا الشافعي وأصحابه وأكثر العلماء، يحسن صوته به.
وقال صالح: قلت لأبي- أي أحمد بن حنبل-: "زينوا القرآن بأصواتكم" ما معناه؟ قال: أن يحسنه، وقيل له: ما معنى: "من لم يتغن بالقرآن" قال: "يرفع صوته به"، وقال الليث: يتحزن به، ويتخشع به ويتباكى به.
ورد الإمام الشافعي على ابن عيينة تأويله، فقال رحمه الله: نحن أعلم بهذا، لو أراد النبي صلى الله عليه وسلم الاستغناء به لقال ليس منا من لم يستغن بالقرآن فلما قال ليس منا من لم يتغن بالقرآن علمنا أنه التغني به، وقال: معناه يقرأه حزنًا وتحزينًا.
وعلى هذا فالوسائل التي يجوز بها استعمال قوانين التغني عند التلاوة هي:
1- الالتزام بضوابط التجويد وأركان الترتيل دون شطط.
2- إبقاء الجو القرآني على حاله من التحزين والخشوع والإخبات.
3- أن لا يتولد منه حروف ليست من القرآن كزيادة ألف أو تطويل الحركة القصيرة، وهو ما يعبر عنه العلماء التمطيط.
4- أن لا يترتب على ذلك التقصير في أداء حركة طويلة، أو البتر في حرفٍ لينٍ أو حرفٍ مشدد مثل التقصير في تشديد (ذريَّة) في قوله تعالى: وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار "البقرة: 266". ونحو ذلك.
5- عدم الغلو في التلحين حتى يظهر أنه الغاية من القراءة لا أنه يعين على تدبر القراءة، فيكون صاحبه مفتونًا قلبه وقلب من يسمعه لدرجة أنه لا يسمع القرآن إلا له، لا لأنه القرآن.
6- عدم الغلو في طلب اللحن حتى يبحث عن أصوله من غناء اللاهين ويصبح فنا مستقلا عن المراد منه، يبذل له التكلف، ويخرج عن طبيعة المرء كما قال ابن الجزري:
مكمَّلاً من غير ما تكلف
باللطف في النطق بلا تعسف
والحمد لله رب العالمين.