قال الله تعالى قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ .
* التعريف بالداعي :
هو أبو البشر، خلقه الله بيده ، وأسجد له ملائكته ، وعلمه الأسماء كلها ، وخلق له زوجته من ضلعه ، وأسكنهما الجنة ، وأنذرهما أن لا يقربا شجرة معينة ، ولكن الشيطان وسوس لهما فأكلا منها ، فأنزلهما الله إلى الأرض ، ومكن لهما سبل العيش بها ، وطالبهما بعبادة الله وحده ، وحض الناس على ذلك ، وجعله خليفته في الأرض ، وهو رسول الله إلى أبنائه وهو أول الأنبياء .
وقد شرفه الله تعالى بأربع تشريفات : ( خلقه له بيده الكريمة ، ونفخه من روحه ، وأمره الملائكة بالسجود له ، وتعليمه أسماء الأشياء )
* محاور الدعاء الوارد :
يرتكز هذا الدعاء على ثلاثة محاور ، هي :
1- ظلم النفس .
2- طلب المغفرة والرحمة .
3- الخوف من الخسران .
* المحور الأول : ظلم النفس :
الظلم لغة : وضع الشيء في غير موضعه .
وفي الشريعة : عبارة عن التعدي عن الحق إلى الباطل ، وهو الجور .
وقيل : هو التصرف في ملك الغير ومجاوزة الحد .
وقد ذكر الله الظلم في الكتاب العزيز في " مائتي موضعٍ وثمانين موضعاً "
. وذمَّهُ وذمَّ الظالمين ، ونفى الظلم عن نفسه في " ثمانيةٍ وعشرين موضعاً " منها ، ويستحيل أن يحرم شيئاً على نفسه ويقبحه من غيره ثم يفعله وهو أعدل العادلين وأجلُّ المنعمين .
والظلم ثلاثة أنواع :
– النوع الأول : ظلم العبد مع ربه .
وذلك بأن يشرك مع الله إلهاً آخر ، فأعظم الظلم أن يجعل العبد لله نداً وهو خلقه، كما قال تعالى إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ، ولهذا قال الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ .
– النوع الثاني : ظلم العبد لأخيه .
ظلم العباد مما حرمه الله ؛ وكما في الحديث الصحيح ( اتقوا الظلم . فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ) .
فنهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ظلم الإنسان في نفسه أو في ماله ، فلا يظلم مسلم مسلماً أبداً .
– النوع الثالث : هو أن يظلم العبد نفسه بالمعاصي التي يرتكبها .
وهي دون الظلم الأكبر الذي هو الشرك بالله تعالى .
عقوبة الظلم :
أما عقاب الظلم فيختلف على حسب حاله :
1- فعقاب الشرك الخلود في النار :
قال الله تعالى إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ .
2- أما ظلم العبد للعبد فعقوبته هي النار ، إلا أن يعفو ذلك المظلوم .
ويتفاوت ذلك فإن كان الظلم قتلاً فهو أشد مما لو كان ضرباً مثلاً ، وإن نهبه ماله ، فهو أشد وأعظم مما لو نهبه بعضه وهكذا .
3- وأما ظلم العبد نفسه ، فهو بحسب ما يذنب من الذنوب .
فإن كانت من الكبائر دون الشرك فعقوبتها بمثل قدرها ، وإن كانت أقل فعقوبتها كذلك ودواؤها الاستغفار ؛ وليست العقوبة هي النار فقط ، بل للذنوب عقوبات كثيرة جداً .
* المحور الثاني : طلب المغفرة والرحمة :
( أ ) المغفرة :
( غ ف ر ) : غَفَرَ اللَّهُ لَهُ غَفْرًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ وَغُفْرَانًا صَفَحَ عَنْهُ وَالْمَغْفِرَةُ اسْمٌ مِنْهُ وَاسْتَغْفَرْتُ اللَّهَ سَأَلْتُهُ الْمَغْفِرَةَ وَاغْتَفَرْتُ لِلْجَانِي مَا صَنَعَ وَأَصْلُ الْغَفْرِ السَّتْرُ وَمِنْهُ يُقَالُ الصِّبْغُ أَغْفَرُ لِلْوَسَخِ أَيْ أَسْتَرُ .
وهي : أن يستر القادر القبيح الصادر ممن تحت قدرته، حتى إن العبد إن ستر عيب سيده مخافة عتابه لا يقال: غفر له .
* أسباب المغفرة ثلاثة :
– السبب الأول : الدعاء مع الرجاء .
إن الدعاء مأمور به وموعود عليه بالإجابة كما قال تعالى وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعُونِى أَستَجِب لَكُم . والدعاء سبب مقتض للإجابة مع استكمال شرائطه وانتقاء موانعه ، وقد تتخلف الإجابة لانتقاء بعض شروطه أو وجود بعض موانعه وآدابه
ومن أعظم شرائطه : حضور القلب ورجاء الإجابة من الله تعالى ، قال عليه الصلاة والسلام [ ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه ] .
– السبب الثاني : الاستغفار .
والاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرة هي وقاية شر الذنوب مع سرها . كقوله تعالى وَاستَغفِرُوا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمُ .
– السبب الثالث : التوحيد .
وهو السبب الأعظم فمن فقده فقد المغفرة، ومن جاء به فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة . قال الله تعالى إِنَّ اللهَ لاَ يَغفِرُ أَن يُشرَكَ بِهِ وَيغفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ فمن جاء مع التوحيد بقراب الأرض، وهو ملؤها أو ما يقارب ملأها خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة ، لكن هذا مع مشيئة الله ، فإن شاء غفر له ، وإن شاء أخذه بذنوبه ثم كان عاقبته أن لا يخلد فى النار بل يخرج منها ثم يدخل الجنة .
( ب ) الرحمة :
هي الرقة والتَّعَطُّف ، والاسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة ، و( رحمن ) أشد مبالغة من ( رحيم ) لأن بناء ( فعلان ) أشد مبالغة من ( فعيل ) ونظيرهما نديم وندمان .
وقد ذُكر ( الرحمن ) في القرآن سبعًا وخمسين مرة ؛ وأما اسمه ( الرحيم ) فقد ذُكر أكثر من مائة مرة .
* من أسباب رحمة اللَّه لخلقه :
السبب الأول : طاعة اللَّه ورسوله .
فكلما كان العبدُ أكثر طاعة لله ورسوله كلما كان أكثر استحقاقًا لرحمة اللَّه ، قال تعالى وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ .
السبب الثاني : الإحسان .
قال اللَّه تعالى إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ .
السبب الثالث : تقوى اللَّه .
فإن كانت رحمة اللَّه قد وسعتْ كل شيء وشملت البر والفاجر ، والمسلم والكافر ، فما من أحد إلا وهو يتقلب في رحمة اللَّه آناء الليل وأطراف النهار وهذا في الدنيا وتلك هي الرحمة العامة ، أما الرحمة الخاصة بدخول الجنة في الآخرة فهي للمؤمنين والمتقين وحدهم . قال تعالى وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ .
السبب الرابع : صلة الرحم .
عن عبد الرحمن بن عوف قال : سمعت رسول الله يقول : ( قال اللَّه : أنا اللَّه ، وأنا الرحمن ، خلقتُ الرَّحِمَ وشققتُ لها اسمًا من اسمي ، فَمَنْ وصلها وَصلتُه ، ومن قطعها بتَتُّه ) .ومعنى بَتَتُّه :أي قطعتُه .
السبب الخامس : الصبر على الابتلاء .
قال تعالى وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ .
السبب السادس : رحمة الناس .
عن عبد اللَّه بن عمرو عن النبي أنه قال وهو على المنبر : ( ارحموا تُرْحَمُوا ، واغفروا يَغْفِر اللَّهُ لكم ) .
* المحور الثالث : الخوف من الخسران :
الخُسْر : النُّقصان والخُسْرانُ كذلك ، والفِعْل : خَسِرَ يَخْسَرُ خُسْراناً .
والخاسِرُ : الّذي وُضِعَ في تجارته ومصدره : الخَسارَةُ والخُسْرُ كِلْتُهُ ووَزَنْتُهُ فأَخْسَرْتُهُ أي : نَقَصْتُهُ . وقوله تعالى فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ، أي : نَقْصاً . وصفقةٌ خاسِرةٌ أي : غَيْرُ مُرْبِحةٍ .
* بعض أوصاف الخاسرين :
1- قال الله تعالى قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا .
2- وقال الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ .
3- وقال الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ .
4- وقال أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ .
5- وقال مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ .
6- وقال لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ .
والآيات في مثل هذا كثيرة ، وقد أقسم تعالى على أن هذا الخسران لا ينجو منه إنسان ، إلا بأربعة أمور :
الأول : الإيمان .
الثاني : العمل الصالح .
الثالث : التواصي بالحق .
الرابع : التواصي بالصبر .
كما قال الله تعالى وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ .