تمنى عمران وزوجته أن يكون لهما ولد، فأخذا يدعوان الله أن يرزقهما الذرية الصالحة، فاستجاب الله لدعائهما، وحملت امرأة عمران، فنذرت أن تهب ما في بطنها لخدمة المسجد الأقصى، ويتولى رعايته، ويقوم على شئونه، ولما ولدت أنثى، قالت: {رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}[آل عمران:36] ثم أخذتها، وذهبت بها إلى المسجد الأقصى حتى تعيش
هناك، وتتربى على التقوى والأخلاق الحميدة، وتنشأ على عبادة الله
منذ الصغر.
وتقدم زكريا ليكفلها ويربيها ويقوم على رعايتها، وقد كان زكريا نجارًا، لكن الناس اختلفوا في ذلك، وارتفعت أصواتهم كل ينادي ويطالب بتربية مريم، وكل يرى نفسه أحق برعايتها من غيره، فقام أحد عُبَّاد المعبد ليفض هذا النزاع الذي نشب بينهم في شأن كفالة مريم، وقال: أقترح عليكم أن نذهب جميعًا إلى النهر ونرمى أقلامنا فيه، والقلم الذي يجري خلاف جري الماء هو الذي يفوز صاحبه بكفالة مريم وينال شرف تربيتها.
فاتفق الجميع على هذا الرأي، وذهبوا إلى النهر، ورمى كل واحد منهم قلمه فذهبت الأقلام جميعها مع التيار إلا قلم زكريا فهو وحده الذي سار خلاف جري الماء، وفاز زكريا بكفالة السيدة مريم، وبدأ زكريا -عليه السلام- في كفالة مريم والقيام على أمرها، وخصص لها مكانًا في المسجد تعيش فيه، ومحرابًا خاصًّا بها لتتعبد فيه، وظلت السيدة مريم في المسجد وقتًا طويلا تعبد الله
وتسبحه، وتقدسه في مكانها الخاص، لا تغادره إلا قليلاً.
وكان زكريا يزورها من حين لآخر، للاطمئنان عليها، والقيام بأمرها، وكلما دخل عليها المسجد، وجد عندها طعامًا، بل كان يجد فاكهة وألوانًا مختلفة من الأطعمة لا توجد في ذلك الوقت، فتعجب زكريا، وأخذته الدهشة ثم سألها: من أين لها بهذه الفاكهة، وهذا الطعام؟! فأخبرته السيدة مريم بأنه رزق من عند الله الذي يرزق من يشاء بغير حساب، وكان زكريا قد كبرت سنه، ولم يكن لديه ولد ولا ذرية، لكنه لما رأى رزق الله لمريم بأشياء ليست في وقتها علم أن الله قادر أن يرزقه ولدًا، وإن كانت امرأته عاقرًا، فانصرف زكريا من عند مريم، وتوجه إلى ربه -عز وجل- يدعوه أن يرزقه بولد صالح.
وفي يوم من الأيام، وبينما زكريا في محرابه يعبد الله ويسبحه، تنزلت عليه الملائكة تبشره باستجابة الله لدعائه، وأن الله سبحانه وهبه غلامًا اسمه يحيى، وسيكون نبيًّا صالحًا، فتعجب زكريا من ذلك فكيف يكون له غلام وقد كبرت سنه، وامرأته عجوز عاقر؟! فأخبرته الملائكة أن هذا أمر الله القادر على كل شىء، عند ذلك طلب زكريا -عليه السلام- من الله تعالى أن يجعل له آية يستدل منها على أن زوجته بدأت تعاني من أعراض الحمل؛ فجعل الله علامة ذلك أن يفقد حاسة النطق لمدة ثلاثة أيام، وعليه في هذه الحالة أن يستحضر قلبه في الصباح والمساء في ذكر الله وعبادته وشكره.
ثم بين له الله -عز وجل- أنه إذا أراد مخاطبة قومه خاطبهم بالإشارة، وأمره الله
-عز وجل- أن يطلب من قومه أن يسبِّحوا لله في الصباح والمساء، ومرت فترة من الزمن، وولد يحيى -عليه السلام- بعد شوق وانتظار؛ وأقر الله به عين زكريا وفرح به فرحًا عظيمًا، فتوجه إلى محرابه يصلي، ويسجد لله عز وجل، ويشكره على هذه النعمة العظيمة.. وقد مات زكريا -عليه السلام- قتيلاً على يد
بني إسرائيل، وقيل: إنه قد مات ولم يقتل، فالله أعلم.
يحيى -عليه السلام- نبي من أنبياء بني إسرائيل، ظهرت آية الله وقدرته فيه حين خلقه، حيث كان أبوه نبي الله زكريا -عليه السلام- شيخًا كبيرًا، وكانت أمه عاقرًا لا تلد، وكان يحيى -عليه السلام- محبًّا للعلم والمعرفة منذ صغره، وقد أمره الله تعالى بأن يأخذ التوراة بجد واجتهاد، فاستوعبها وحفظها وعمل بما فيها، والتزم بأوامر الله سبحانه وابتعد عن نواهيه، قال تعالى: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيًّا} [مريم: 12].
وقد ابتعد يحيى عن لهو الأطفال، فيحكى أنه كان يسير وهو صغير إذ أقبل على بعض الأطفال وهم يلعبون فقالوا له: يا يحيى تعال معنا نلعب؛ فرد عليهم
يحيى -عليه السلام- ردًّا بليغًا فقال: ما للعب خلقنا، وإنما خلقنا لعبادة
الله، وكان يحيى متواضعًا شديد الحنان والشفقة والرحمة وخاصة تجاه والديه، فقد كان مثالاً للبر والرحمة والعطف بهما، قال تعالى عن يحيى: {وحنانًا من لدنَّا وزكاة وكان تقيًّا . وبرًّا بوالديه ولم يكن جبارًا عصيًّا} [مريم:13-14].
وحمل يحيى لواء الدعوة مع أبيه، وكان مباركًا يدعو الناس إلى نور
التوحيد ليخرجهم من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الإسلام، وكان شديد الحرص على أن ينصح قومه ويعظهم بالبعد عن الانحرافات التى كانت سائدة حين ذاك، وذات يوم جمع يحيى بني إسرائيل في بيت المقدس ثم صعد المنبر، وأخذ يخطب في الناس، فقالإن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن، وآمركم أن تعملوا بهن.. أولهنَّ أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، فإن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدًا من خالص ماله بذهب أو ورق (فضة) فقال: هذه
داري، وهذا عملي فاعمل وأد إليَّ، فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده، فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك ؟وإن الله أمركم بالصلاة، فإذا صليتم، فلا تلتفتوا، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت، وآمركم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك، فكلهم يعجب أو يعجبه ريحها، وإن ريح الصائم أطيب عند الله -تعالى- من ريح المسك، وآمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو، فأوثقوا يده إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، فقال: أنا أفديه منكم بالقليل والكثير، ففدى نفسه منهم، وآمركم أن تذكروا الله، فإن
مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعًا، حتى إذا أتى على حصن حصين، فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا
بذكر الله) [الترمذي].
وكان يحيى يحب العزلة والانفراد بنفسه فكان كثيرًا ما يذهب إلى البراري والصحاري، ليعبد الله عز وجل فيها وحده، وروي أن يحيى -عليه السلام- لم يأت بخطيئة قطُّ، ولم يقبل على ذنب أبدًا، قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يحيى بن زكريا ما هم بخطيئة ولا عملها) [أحمد] ولقد رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- يحيى -عليه السلام- ليلة المعراج في السماء الثانية يجلس مع عيسى بن مريم، يقول صلى الله عليه وسلم: (…. ثم صعد حتى أتى السماء الثانية فاستفتح، قيل من هذا؟ قال: جبريل.. قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم.. فلما خلصت إذا بيحيى وعيسى وهما ابنا خالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلمت فردَّا، ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح) [البخاري] وروي أنه مات قتيلاً على يد بني إسرائيل.