تخطى إلى المحتوى

وقفات في وداع العام الهجري 2024.

وقفات في وداع العام الهجري

الحمد لله خلق كل شيء فقدره تقديراً، وتبارك الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً.

اخواتي الحبيبات

ليس للتقوى زمن محدود ولا موسم مخصوص معدود، وإنّما هي حق الله الدائم على العبيد، يعمرون بها أوقاتهم،
ويستعملون فيها أبدانهم، ويقضون فيها أعمارهم. والمغبون من لم يعرف ربّه إلاّ في أيام معلومة، أو ساعات معدودة،
ثم يعود بعد ذلك إلى الغي والغفلة، وينتكس في المعاصي والشهوة، ويرتكس في الآثام والعصيان.

إنّ كل آتٍ قريب، وإنّما البعيد ما ليس بآتٍ.

ومن كانت مطيته الليل والنهار سير به وإن لم يسر،

فإنّ الليل والنهار مطيتان تقربان كل بعيد وتبليان كل جديد، وتأتيان بكل موعود.
والله تعالى جعل الليالي والأيام والشهور والأعوام مواقيت للأعمال، ومقادير للآجال،

فهي تنقضي جميعاً وتمضي سريعاً،

والذي أوجدها باقٍ لا يزول، ودائم لا يحول.

ونحن نودع عاماً هجريًّا مضى من أعمارنا، ونستقبل عاماً جديداً،

يلزم الإنسان منا أن يقف وقفة تساؤل، وتأمل وتدبر،

تعقبها وقفة طويلة يحاسب فيها الإنسان نفسه عما اقترفه خلال عام كامل من عمره، عام مضى وانقضى،

لا ندري ما الله صانع فيه،

ثم وقفة استعداد لانطلاقه إلى الله من خلال عام نستقبله لا ندري ما الله قاض فيه.

1 ـ وقفة تأمل وتدبر:

إنّ أول ما يجب أن يلفت انتباهنا السرعة العجيبة التي مرت بهاهذه السنة،
فبالأمس القريب كنا نستقبل هذا العام، وهانحن وبهذه السرعة نودعه،
وفي هذا ما يدل أولي الألباب على سرعة انقضاء الأعمار، وسرعة فناء هذه الدار،

كما قال العزيز القهار:

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190].

ما بين الولادة والكهولة، والشباب والشيخوخة، والهرم ثم الموت،

ينتهي شريط الحياة في عجالة، ويُطوى سجل الإنسان وكأنها غمضة عين، أو ومضة برق،

فياعجبا لهذه الحياة كيف خُدع بها الناس،وغرهم طول الأمل فيها، وهي كما قال الله فيها:

{لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الحديد: 20]،

{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} [الكهف: 45].

{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْنَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24].

هذه هي الدنيا التي يستغرق فيها كثير من النّاس ويضيعون من أجلها الآخرة لينالوا بعض متاعها ويتمتعوا ببعض ملذاتها وشهواتها،

هي والله سراب خادع، وبريق لامع، ولكنها سيف قاطع، وصارم ساطع،
كم أذاقت بوساً، وجرعت غصصاً، كم أحزنت فرحاً، وأبكت مرحاً،
كم هرم فيها من صغير، وذل فيها من أمير،
وارتفع فيها من حقير، وافتقر فيها من غني،
واغتنى فيها من فقير، ومات فيها من صغير وكبير، وعظيم وحقير، وأمير ووزير، وغني وفقير.

إنّ الدنيا أيّاما محدودة، وأنفاسا معدودة، وآجالا مضروبة، وأعمالا محسوبة،
هي والله قصيرة، وإن طالت في عين المخدوعين بزخرفها، وحقيرة وإن جلت في قلوب المفتونين بشهواتها.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) [فاطر:5]،
(يَا قَوْمِ إِنَّمَاهَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 39].

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي وقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل».
وكان ابن عمريقول: "إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح".

وهذا الحديث العظيم أصلٌ في قِصَر الأمل في هذه الحياة، وكأن الإنسان فيها على جناح سفر فهو يتأهب للرحيل.

روى الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«مالي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم قام وتركها».

وقال عيسى عليه السلام لأصحابه: "الدنيا قنطرة، اعبروها ولا تعمروها". وقال: "من ذا الذي يبني على موج البحر داراً، تلكم الدنيا فلا تتخذوها قراراً".
وقال علي رضي الله عنه: "إنّ الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإنّ الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون،
فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإنّ اليوم عمل ولاحساب، وغداً حساب ولا عمل".

وقال الإمام النووي:

إن لله عباداً فُطناً ***
طلقوا الدنيا وخافوا الفـتنا

نظروا فيها فلما علموا ***
أنها ليست لحيٍ وطـنا

جعلوها لُجة واتخذوا ***
صالح الأعمال فيها سُفنا

وقيل لنوح عليه السلام: "يا أطول الناس عمراً كيف وجدت الدنيا؟ قال: كدارٍ لها بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر".

هذا وهو الذي عاش نحواً من ألف عام، فكيف بصاحب الستين أو السبعين؟

خطب عتبة بن غزوان فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

"أمّا بعد .. فإنّ الدنيا قد آذنت بصرم، وولت حذّاء ،
ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإنّكم منتقلون منها إلى دار لازوال لها فانتقلوا بخير ما بحضرتكم،
فإنّه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفة جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً لا يدرك مقرها. ووالله لتملأن".

خطب عمر بن عبدالعزيز النّاس فقال: "أيّها النّاس، إنّ الدنيا ليست بدار قرار، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها فيها الظعن، فكم من عامر عما قليل يخرب، وكم من مقيم عما قليل يظعن".

إنّا لنفــرح بالأيام نقطعهـا *** وكل يوم مضى يدني من الأجل
النفس تكلف بالدنيا وقد علمت *** أن السلامة فيهـا ترك ما فيها
فلا الإقامة تنجي النفس من تلف *** ولا الفرار من الأحداث ينجيها
وكل نفس لهــا دوريصبحها *** من المنيــة يوماً أو يمسيـها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.