قال الشوكاني: "وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع صوت الملك ونظر إليه أخذته الرعدة، فأتى أهله وقال: زملوني دثروني. وكان خطابه صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب في أول نزول الوحي".( فتح القدير 7-335 )
ماذا عساه أن يفعل يتيم كريم النسب، شب على فقر، وأقلقه عبادة أصنام لا يرى فيها نفعا ولا ضرا، فراح يتحنث في هذا الغار المنكفئ البعيد المرتفع؟
وماذا يقول وقد روع ُروعه مشهد تنزل الملك بالوحي على طبيعته، في عظمة لم يرها من قبل، في ذلك المكان الموحش المنقطع إلا منهما؟ .. فتزمل بما يستطيعه عسى أن تغني عنه هذه الأسباب الأرضية شيئا..
فتتنزل هذه السورة لتسكن ذلك القلب الطاهر المرتجف من هول المفاجأة ومن ثقل المهمة التي حُمِّلها، ومن الإشفاق من الآتي، فتتنزل عليه هذه الآية ضمن ما تنزل فتشهده حقيقة حقائق هذا الوجود " رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا" ..
وربما تزمّل النبي صلى الله عليه وسلم إشفاقا من رؤية جبريل على خلقته أو لثقل الوحي "قولا ثقيلا".. أومن ثقل مهمة البلاغ وما فيه من مواجهة الناس بما ينكرون وما يكرهون وخاصة من قومه وهو الحريص عليهم .. وما يتوقعه من معاداة وآلام .. ومن ثقل أن يكون له أتباع يُسأل عنهم، ويخشى عليهم كل نازلة .. ومن ثقل قيام الليل إلا قليلا .. ومن ثقل الإصلاح وماله من ثمن في مجتمع ملئ بالآفات، ملئ بالعقبات يأبى الإصلاح إلا بما يرضى الكبراء فقط .. ومن ثقل الشعور بالقلة والضعف إزاء كل هذا .. ومن قبل مهمة القراءة باسم الله الذي خلق التي لا يقوم بها أمي لايقرأ ولا يكتب إلا أن يشاء الله له ذلك.. إنها لحظة تضيق فيها النفس ضيقا حين تنحصر في داخلها الدنيا بأسرها بما فلا هي بالمنفتحة ولا هي بالتي تسع الدنيا .. فلا يقوم لها إلا أن تشرق مثل هذه الآية على القلب فترد الأمور إلى الحقائق، فتهدأ النفس حين تأنس بهذا اليقين: "واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا"
قال الطبري: ومعنى الكلام: "رب المشرق والمغرب وما بينهما من العالم."
قرأ الجمهور المشرق والمغرب مفردين، وقرأ ابن مسعود، وابن عباس" المشارق والمغارب " على الجمع، فاتخذه وكيلا أي إذا عرفت أنه المختص بالربوية فاتخذه وكيلا: أي قائما بأمورك، وعول عليه في جميعها، وقيل كفيلا بما وعدك من الجزاء والنصر.
وأحسب أن هذه الآية والتي قبلها بما حوتهما يحملان القضية الكلية لهذه السورة، أما ما جاء قبلهما وبعدهما فإنما هو فرع عن هذا الأصل .. فقد تعرف الله إلى قلب عبده بربويته وألوهيته وبأسمائه التي منها الوكيل ليفرده في كل ذلك .. والمشرق والمغرب هنا مكانان وزمانان معا، فمشرق الأرض هو طرفها ومغرب الشمس هو الطرف المقابل ..
والمشرق بداية اليوم، وبداية الحياة، والمغرب نهاية اليوم ونهاية الحياة، والمغرب كما هو نهاية هو بداية لعالم آخر غير هذا العالم الذي يشهده ويعهده، والمشرق كما هو مشرق الشمس هو مشرق القمر والنجوم .. والمغرب هومغربها أيضا، ومن هنا تصور الآية حقيقة إحاطة الرب جل وعلا بالزمان والمكان، الذي يلقي في الروع ألا مهرب من الله إلا بالركون إليه: فاتخذه وكيلا.
والإحاطة هنا .. إحاطة علم كما هي إحاطة حكمة .. وإحاطة قدرة كما هي إحاطة تقدير .. وإحاطة هداية كما هي إحاطة خلق .. إحاطة تدبير كما هي إحاطة رزق .. وإحاطة لطف كما هي إحاطة رحمة .. وإحاطة عون كما هي إحاطة جبروت وعظمة .. وإحاطة إبداع وإتقان كما هي إحاطة أمر .. وإحاطة حكم كما هي إحاطة جلال .. إنها عظمة التجلي في هذه الآية التي تملأ القلب بذكر اسم الله – أي أسمائه – حتى تشعره بالانقطاع عن كل شيء، وبصفاته حتى لا تشغله غيرها من المعاني، فيعود يشهد معنى هذه الآية بحق: "رب المشرق والمغرب" بكونه المألوه وحده سبحانه: "لا إله إلا هو" فيقَر القلب بحقيقة:" فاتخذه وكيلا"
ومن هنا جمعت هاتان الآيتان حقيقة التوحيد في الربوبية والألوهية وفي الأسماء والصفات، كما جمعت إحاطة هذا الرب بالمكان والزمان كما شهدت له بالإحاطة بكل هذه المعاني في لفظ دقيق موجز ..
وقد ناسبت هذه الآية الآيات التي قبلها والتي كانت إعدادا للنبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين لحمل هذه الرسالة: (قم الليل إلا قليلا .. رتل القرآن ترتيلا .. اذكر اسم ربك .. تبتل إليه تبتيلا .. اتخذه وكيلا .. اصبر .. اهجرهم هجرا جميلا .. وقد راعي في كل معنى من هذه المعاني أن يكون تماما على الذي أحسن، ليناسب هذه الإحاطة هنا ..
فاتخذه وكيلا في كل أمورك .. حتى في تحقيق طاعته، والقيام بأمره ونصره دينه .. ومع هذا فالطريق صعب لاحب .. يحتاج إلى مدد الصبر، هذه الأحمال لا ينهض لها الصبر بمجامعه إلا بشهود هذا المعنى الكامل الشامل الوافي في هذه الآية ..
وشهود هذه الإحاطة تورث العبد التبتل وحسن التوكل .. وقد رأينا موقف إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار فقال: (حسبنا الله ونعم الوكيل) وقد جاءه جبريل فقال له: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا .. فقال الله عنه: "فأنجاه الله من النار" ..وقال للنار: (كوني بردا وسلاما على إبراهيم).
وقد ناسبت هذه الآية، الآية التي قبلها، فجاءت تفسيرا أوبدلا عن الهاء في لفظ "إليه" العائدة على لفظ "ربك"- على قولين في القراءات – في قوله تعالى: (وتبتل إليه تبتيلا)، ولا يتحقق هذا الذكر على حقيقته ولا التبتل على كماله إلا بشهود حقائق هذه الآية..
وقد جاء التبتل في مقابلة الهجر الجميل .. والصبر في معية التوكل .. والقيام مع الترتيل .. وذكر الاسم أو الأسماء الحسنى مع استحضار هذه الإحاطة ..
وحوت السورة من صيغ المبالغة ومعانيها معان جميلة: كقوله تعالى: قم الليل إلا قليلا .. رتل ترتيلا، وأشد وأقوم.. تبتل تبتيلا..
وقد جمع هنا بين الفعل تبتل ومصدر بتِّل ليجمع أنواع التبتل المادي والمعنوي، أوأوله وآخره وربما كان ذلك للتدرج..
يقول ابن القيم رحمه الله:"التبتل" الانقطاع. وهو تَفَعُّل من البَتْل وهو القطع. وسميت مريم البتول لانقطاعها عن الأزواج، وعن أن يكون لها نظراء من نساء زمانها. ففاقت نساء الزمان شرفا وفضلا. وقطعت منهن. ومصدر "بتَّل" "تبتلا" كالتعلم والتفهم، ولكن جاء على التفعيل – مصدر تفعل- لسر لطيف. فإن في هذا الفعل إيذانا بالتدريج والتكلف والتعمل والتكثر والمبالغة. فأتي بالفعل الدال على أحدهما، وبالمصدر الدال على الآخر. فكأنه قيل: بَتِّل نفسك إلى الله تبتيلا وتبتل إليه تبتلا. ففهم المعنيان من الفعل ومصدره. وهذا كثير في القرآن وهو من أحسن الاختصار والإيجاز.( تهذيب مدارج السالكين -295 )
منقول