والفاجر والملك والفقير، العظيم والحقير، الكبير والصغير، كلٌ منا سوف يقدم عليها، ما
هي هذه الساعة؟ إنها ساعة الاحتضار
روي عن أبان بن عياش رحمه الله، قال: خرجت
من عند أنس بن مالك في البصرة فإذا جنازة تمر عليَّ يتبعها أربعة نفر، فقلت: سبحان الله!
جنازة لا يتبعها إلا أربعة! قال: فأخذت العهد على نفسي لأتبعن هذه الجنازة، فاتبعتها حتى
إذا كنا في المقبرة، قال: فصلينا عليها ثم دفناها وبعد أن قضينا دفنها قلت لهم: أسألكم بالله
جنازة من المسلمين لا يتبعها إلا أربعة نفر أين المسلمون؟! فقالوا: انظر إلى هذه المرأة،
فإذا امرأة من بعيد، قالوا: فإنها استأجرتنا لنتبع هذه الجنازة، اذهب إليها فاسألها عن
الخبر، قال: فتبعتها حتى دخلت بيتها، فطرقت الباب عليها فخرجت فسألتها فقلت: يرحمك
الله ما بال هذه الجنازة؟ قالت: هذا ابني، لما حضرته ساعة الوفاة -انظروا إلى الندم وتذكر
المعاصي وكان عاقاً لأمه فاجراً فاسقاً- قال لي: يا أماه! أتريدين السعادة لي؟ قلت: إي والله
أريد لك السعادة. مهما عق الابن أمه أو أباه فإنهم في تلك الساعة ينسيان كل شيء ولا
يتذكران إلا سعادة الابن، قلت: إي والله أريد لك السعادة، فقال: إذا اقتربت ساعتي فضعي
قدمك على خدي ثم قولي: هذا جزاء من يعصي الله، ثم ارفعي يديك إلى الله عز وجل
وقولي: اللهم إني قد أمسيت راضية عنه، فارض عنه، ولا تخبري أحداً بموتي فإنهم
يعرفون أني أعصي الله ولا أطيعه، تقول: فلما اقتربت ساعته وضعت قدمي على خده
ورفعت يديَّ إلى الله، وقلت: هذا جزاء من يعصي الله، اللهم إني قد أمسيت راضية عنه
فارض عنه، قال: وبعد قليل تبسمت، فقلت لها: ما الذي حدث؟ قالت: رأيته البارحة في
المنام وهو يضحك فقلت له: مالك؟ قال: لقيت رباً كريماً رحيماً غير غضبان؛ بدعوتك لي يا
أماه.
انظروا إلى تلك الساعة التي يقترب فيها الرجل من آخرته.
عثمان رضي الله عنه كان إذا حضر جنازةً بكى، قيل له: ما يبكيك رحمك الله؟ قال: [القبر
أول منازل الآخرة، فإن كان يسيراً فما بعده أيسر، وإن كان شديداً فما بعده أشد]. عمر بن
عبد العزيز رضي الله عنه الخليفة الراشد بعدما صلى بالمسلمين العيد خرج مع أصحابه فمر
على مقبرة فقال لأصحابه: اجلسوا انتظروني، فنزل من بغلته -وكان أميراً للمؤمنين- ونظر
إلى الملوك والأمراء والوزراء والعظماء والسادة أين هم تحت التراب، فأخذ ينشد ويقول:
أتيت القبور فناديتـها أين المعظم والمحتقر
تفانوا جميعاً فما مخـبر وما توا جميعاً ومات الخبر
تروح وتغدو بنات الثرى فتمحوا محاسن تلك الصور
فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيما مضى معتبر
ثم قال: أيها الموت! ماذا فعلت بالأحبة؟! ثم جلس وأخذ يبكي وينتحب، ثم رجع إلى
أصحابه وهم ينظرون إليه، فقال: أتدرون ماذا يقول الموت؟ قالوا: لا ندري. قال: يقول:
بدأت بالحدقتين فأكلت العينين، وفصلت الكفين عن الساعدين، والساعدين عن العضدين،
والقدمين عن الساقين، والساقين عن الفخذين. كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ
[القيامة:26-27]
ساعة ندم
تتذكر فيها -يا عبد الله- يوم كنت تفتح المجلة وتنظر إليها ولا أحد ينظر إليك،
تتذكر يوم كنت تجلس أمام التلفاز وتقول: سوف أستغفر الله.. سوف أصلي.. سوف أتوب،
تتذكر يوم أن كنت تحادثها بالهاتف ولا أحد يسمعك إلا الله، تتذكر يوم أن كنت تسمع
المؤذن يؤذن لصلاة الفجر وتستيقظ ثم تقول: أصلي بعد طلوع الشمس، تتذكر يوماً من
الأيام كنت تسمع الصالحين ينادونك فلا تستجيب لهم، تتذكر يوماً من الأيام تسمع مجالس
الذكر فتولي هاربا، يوماً من الأيام كنت تأكل الربا، كنت تستهزئ بأهل الدين، وفي تلك
الساعة تحس أن نبضات قلبك أصبحت ثقيلة، ضربة تسمعها، ثم ضربة أخرى تعدها، ثم
ضربة ثالثة، ما بال القلب بدأت تثقل ضرباته؟ ما بال الأنفاس كأنها تخرج من ثقب إبرة؟
تنظر حولك، فإذا الأم تبكي عليك، تنظر إلى زوجتك قد احتضنت ابنتك وهي تبكي عليك،
ابنك الصغير قد رمى نفسه عليك وهو يبكي ويقول: أبي..أبي! ولا تستطيع أن تجيبه،
تنظر إلى أبيك وقد جاء بالطبيب، والطبيب يسمع دقات قلبك، وأنت تنظر وتعلم أن الفراق
قد أتى، تنظر إلى إخوانك يبكون ويندبون وينوحون، تنظر إلى من حولك هم في واد وأنت
في وادٍ آخر،
ما بال القدمين قد بردتا؟
ما بال الساقين قد التصقتا؟
ما بال الكفين لا تستطيع أن تحركهما؟
ما بال العينين قد شخصتا
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة:26-30]^. تريد
الروح أن تخرج فتنطلق تلك الصرخة رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ
[المؤمنون:99-100]^ فتسمع الجواب: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ
إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100
ساعة الندم في النار
عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي البكاء على أهل النار فيبكون حتى تنقطع الدموع، ثم يبكون الدم) الدمع ينقطع في النار فيبكون الدماء، هل تصورت هذا المنظر؟ وهل تعدل النظرة إلى التلفاز تلك اللحظة؟ هل تعدلها تلك السهرة أو ذلك اللقاء معها؟ هل تعدلها تلك الصحبة الفاسدة؟ لا والله. يقول: (ثم يبكون الدم حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود من كثرة البكاء -تشق الوجوه كالأخاديد- ولو أنزلت فيه السفن لجرت) لو أنزلت السفن في دموعهم ودمائهم لجرت السفن. يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ [الأحزاب:66]^ فماذا
يتذكرون؟ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا
فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا [الأحزاب:66-67]^.
يا سائراً في غمرة الجهل والهوى صريع الأغاني عن قريب ستندم
أتت الذي ليس تعجب سوى جنة أو حر نارٍ ستضرم
وبادر مادام في العمر فسحة وحجك مبرور وفرضك طيب
وزد وسارع واغتنم زمن الصبا ففي زمن الإمكان تسعى وتغنم
وسر مسرعاً فالموت خلفك مسرعا وهيهات ما منه مفر ومهزم
في تلك الساعة الأخيرة؛
ساعة الندم الأخيرة ينادون ربهم ويقولون: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا
شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:106-107].
يقول الحسن لصاحبه بعد أن دفنوا جنازة: لو قام من قبره ماذا تظنه يفعل؟ قال: يصلي ركعتين،
قال: فإن لم يكن هو فكن أنت. يرد الله عليهم في النار بعد أن قالوا: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا
فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:107]^ فهناك يعترفون ويقولون: كنا قوماً ضالين.. كنا غافلين.. كنا
لا هين.. كنا جاهلين، فيرد الله عز وجل عليهم بعد سنواتٍ طوال قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ
[المؤمنون:108]^. فبعد هذا لا يتكلمون وتطبق عليهم النار وتغلق الأبواب، نعوذ بالله من
جهنم. اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا. وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.
♥ لاتنسونا من صالح دعائكم إن شاء الله ♥