فقد سجل اللـه فى قرآنه العظيم { وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ(21)لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ(22)وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ(23)أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ(24)مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ(25)الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ(26)قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ(27)قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ(28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} [ ق : 21 – 29 ] .
وفى الصحيحين من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال : (( من نوقش الحســاب يوم القيامة عُذِّبْ)) قالت عائشة يا رسول اللـه أو ليس اللـه يقول:{ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ(7)فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق:7-8]
فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم ( إنما ذلك العرض وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك)) ([1]) .
فمن نوقش الحساب عذب .
سينادى عليك كما فى الصحيحين من حديث عدى بن حاتم أنه صلى اللـه عليه وسلم قال : ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينة وبينة تُرجُمَان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قَدَّمَ ، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجه ، فاتقو النار ولو بشق تمرة )) ([2]) .
تنادى الملائكة أين فلان بن فلان ؟!!
من؟!! هذا هو اسمى .
فإذا تَيَقّنْتَ أنك أنت المطلوب،قرع النداء قلبك فاصفر لونك وتغير وجهك وطار قلبك ، وقد وُكّلَت الملائكة بأخذك أمام الخلق أجمعين ، على رؤوس الأشهاد ، ويرفع الخلائق جميعا أبصارهم إليك وأنت فى طريقك للوقوف بين يدى الملك تتخطى الصفوف يا عبد اللـه .
وأسألك باللـه أن تتصور هذا المشهد الذى يكاد يخلع القلوب .
تتخطى صفوف الملائكة ، صفوف الجن وصفوف الإنس ، فى أرض المحشر لترى نفسك واقفا بين يدى الحق جل جلاله ليكلمك اللـه لتعطى صحيفتك !!
هذه الصحيفة التى لا تغادر بلية كتمتها ولا مخبأة أسررتها ، فكم من معصية قد كنت نسيتها ؟! ذكرك اللـه إياها ، وكم من معصية قد كنت أخفيتها ؟! أظهرها اللـه لك وأبداها!!!
فيا حسرة قلبك وقتها على ما فرطت فى دنياك من طاعة مولاك،
فإن كان العبد من أهل السعادة ممن رضى اللـه عنهم فى الدنيا والآخرة ـ اللـهم اجعلنا منهم بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين ـ أعطاه اللـه كتابه بيمينه وأظهر له فى ظاهر الكتاب الحسنات ، وفى باطنه السيئات فيأمر العبد أن يبدأ فيقرأ السيئات فيصفر لونه ويتغير وجه وترتعد فرائصه .
فإذا ما أنهى قراءة السيئات وجد فى آخر الكتاب ، هذه سيئاتك قد غفرتها لك ، فيتهلل وجهه ويسعد سعادة لا يشقى بل لن يشقى بعدها أبداً ويواصل القراءة حتى إذا ما وصل الى آخر الكتاب قرأ الحسنات فازداد وجهه إشراقاً وازداد فرحاً وسروراً وقال له الملك جل جلاله : انطلق إلى أصحابك وإخوانك ـ أى من أهل التوحيد والإيمان – فبشرهم أن لهم مثل ما رأيت فينطلق وكتابه بيمينه والنور يشرق من وجهه ومن أعضاءه يقول لأصحابه وخلاَّنه ألا تعرفوننى ؟! فيقولون من أنت لقد غمرتك كرامة اللـه؟!!فيقول أنا فلان بن فلان انظروا هذا كتابى بيمينى (( اقرأوا كتابيه )) اقرأوا هذا الكتاب معى ، شاركونى الفرحة والسعادة ، انظروا هذا توحيدى وهذه صلاتى ، وهذه زكاتى ، وهذه صدقتى ، وهذا حجى ، وهذا قيامى الليل ، وهذا إحسانى ، وهذا برى بوالدى ، وهذا إحسانى للأهل والجيران ، وهذا أمرى بالمعروف ، وهذا نهى عن المنكر ، وهذا بعدى عن الغيبة والنميمة ، وهذا بعدى عن ظلم العباد { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ(19)إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ(20)فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(21)فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(22)قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ(23)كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ } [ الحاقة : 19ـ 24] .
أما إذا كان من أهل الشقاوة – أعاذنا اللـه وإياكم من ذلك – ممن غضب اللـه عليهم فى الدنيا والآخرة ، ينادى عليه أين فلان بن فلان؟!! وسبحان اللـه ! من لا تختلف عليه الأصوات ولا تشتبه عليه اللغات ولا تشتبه عليه الأسماء والصفات .
أين فلان بن فلان ؟! مَنْ ..هذا هو اسمى ماذا تريدون يا ملائكة اللـه؟!
هلم إلى العرض على اللـه جل وعلا فيتخطى الصفوف ليرى نفسه بين يدى اللـه فيعطى كتابه بشماله أو من وراء ظهره .
فيقرأ فيسود وجهه ثم يكسى من سرابيل القطران ويقال له انطلق إلى من هم على شاكلتك فبشرهم أن لهم مثل ما رأيت ، فينطلق فى أرض المحشر وقد اسود وجهه وعلاه الخزى ، والذل والعار ، وكتابه بشماله أو من وراء ظهره فينطلق فيقول لخلانه ومن هم على شاكلته، ألا تعرفوننى ؟! فيقولون لا إلا أننا نرى ما بك من الخزى والذل فمن أنت ؟!!
فيقول : أنا فلان بن فلان وهذا كتابى بشمالى ولكل واحد منكم مثل هذا ، فلقد شقى شقاوة لا يسعد بعدها أبداً .
يصرخ بأعلى صوته ويقول { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ(25)وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ(26)يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ(27)مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ(28)هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ(29)خُذُوهُ فَغُلُّوهُ(30)ثُمَّ لْجَحِيمَ صَلُّوهُ(31)ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ(32)إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ(33)وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ(34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ(35)وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ(36)لا يَأْكُلُهُ إِلا الْخَاطِئُونَ } [ الحاقة : 25 – 37 ] .
ولله در القائل
مَثِّــلْ وقوفك يوم العرض عُريانا
مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانَـــا
والنار تلهب من غيظٍ ومـن حنـقٍ
على العصاةِ ورب العرش غَضبانَا
اقرأ كتابك ياعبدُ على مَهَــــل
فهل ترى فيه حَرفاً غيرَ مَا كــاناَ
فلما قرأتَ ولم تنكر قراءتـَـــهُ
إقرارَ من عَفَ الأشيـــاءَ عرفانَا
نادى الجليل خذُوهُ يا ملائكتـــى
وامضوا بعبد عَصَى للنـار عطشانَا
المشركون غداً فى النار يَلتَهبُــوا
والمؤمنـون بـدارِ الخلــدِ سُكَّانَا
([1]) رواه البخارى رقم ( 103) فى العلم ،باب من سمع شيئا فراجع حتى يعرفه ، ومسلم رقم (2876) فى الجنة باب اثبات الحساب، وأبو داود رقم (3093) فى الجنائز، باب عبادة النساء ، والترمذى رقم (2428) فى صفة القيامة ، باب من نوقش الحساب عذب 0
([2]) رواه البخارى رقم (7512) فى التوحيد ، باب كلام الرب عز وجل ومســلم رقم (1016) فى الزكاة ، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة ، والترمذى رقم (2427) فى صفـة القيــــامة .